یعتبر عید الغدير من أهم وأعظم الأعياد عند المسلمين وهو عيد الله الاكبر
. وفي ذلك قال أحد أصحاب الأئمة (عليهم السلام): سألت أبا عبد الله (عليه السلام) هل للمسلمين عيد غير يوم الجمعة والأضحى والفطر؟
قال (عليه السلام): «نعم، أعظمها حرمة».
قلت: وأي عيد هو جعلت فداك؟!
قال (عليه السلام): «اليوم الذي نصب فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقال: من كُنت مولاه فعلي مولاه».
قلت: وأي يوم هو؟
قال (عليه السلام): «وما تصنع باليوم؟ إنّ السنة تدور، ولكنه يوم ثمانية عشر من ذي الحجة».
فقلت: ما ينبغي لنا أن نفعل في ذلك اليوم؟
قال: «تذكرون الله (عزّ ذكره) فيه بالصيام والعبادة، والذكر لمحمد وآل محمد، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أوصى أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يُتخذ ذلك اليوم عيداً، وكذلك كانت الأنبياء تفعل، كانوا يوصون أوصياءهم بذلك فيتخذونه عيداً»[5].
فعلى المسلمين اليوم أن يجعلوا هذا اليوم حافزاً لهم لعمل الخير والصلاح، والاتجاه إلى الله في كل عمل من أعمالهم، والوقوف بوجه الظالمين وأعداء الدين، ليزدادوا قرباً من العلي القدير.
يوم البشرى
قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ))
نزلت هذه الآية الكريمة على النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) تأمره أن يبلِّغ ما أمره الله سبحانه به.
وقد ذكر ثقاة المفسرين أنها نزلت على النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) لكي يبلِّغ ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الناس، وقد ذكر المفسرون والمؤرخون والمحدثون جميعاً في تفسير هذه الآية: أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قرّر الذهاب إلى الحج في السنة الأخيرة من حياته، والذي عرف فيما بعد بحجة الوداع، فوجّه (صلى الله عليه وآله) نداءه إلى المسلمين كافة يدعوهم فيه إلى أداء فريضة الحج وتعلّم مناسكه منه، فانتشر نبأ سفره، وصدى ندائه في المسلمين جميعاً، وتوافد الناس إلى المدينة المنورة، وانضمّوا إلى موكب الرسول (صلى الله عليه وآله) حتى بلغ عدد الذين خرجوا معه (120) ألفاً على أغلب الروايات، وفي بعض مصادر العامة (180) ألفاً، والتحق بالنبي (صلى الله عليه وآله) ناس كثيرون من اليمن ومكة وغيرهما، ولمّا أدى الرسول (صلى الله عليه وآله) مناسك الحج انصرف راجعاً إلى المدينة، وخرجت المسيرة التي كانت تربو على (120) ألفاً من المسلمين، حتى وصلت إلى أرض تسمى «خُم» وفيها غدير اجتمع فيه ماء المطر يدعى (غدير خم) وكان وصولهم إليه في اليوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة من عام حجة الوداع وفي سنة عشر من مهاجره (صلى الله عليه وآله).
وعندما وصلت المسيرة العظيمة إلى هذه المنطقة هبط الأمين جبرئيل من عند الله تعالى على رسول الله (صلى الله عليه وآله) هاتفاً بالآية الكريمة: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)) أي: في علي (عليه السلام) فأبلغ جبرئيل الرسول (صلى الله عليه وآله) رسالة الله إليه: بأن يقيم علي بن أبي طالب (عليه السلام) إماماً على الناس وخليفة من بعده ووصياً له فيهم، وأن يبلغهم ما نزل في علي (عليه السلام) من الولاية وفرض الطاعة على كل أحد.
فتوقف النبي (صلى الله عليه وآله) عن المسير وأمر أن يلحق به من تأخر عنه ويرجع من تقدم عليه، وكان الجو حاراً جداً حتى كان الرجل منهم يتصبب عرقاً من شدة الحر
وبعضهم كان يضع بعض ردائه على رأسه والبعض الآخر تحت قدميه لإتقاء جمرة الحر وشدته.
وأدركتهم صلاة الظهر فصلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالناس ومدت له ظلال على شجرات ووضعت أحداج الإبل بعضها فوق بعض حتى صارت كالمنبر، فوقف الرسول (صلى الله عليه وآله) عليها لكي يشاهده جميع الحاضرين ورفع صوته من الأعماق ملقياً فيهم خطبة بليغة مسهبة، ما زالت تصكُّ سمع الدهر، افتتحها بالحمد والثناء على الله سبحانه، وركّز حديثه وكلامه حول شخصية خليفته الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وذكر فضائله ومناقبه ومزاياه ومواقفه المشرّفة ومنزلته الرفيعة عند الله ورسوله، وأمر الناس بطاعته وطاعة أهل بيته الطاهرين، وأكّد أنهم حجج الله تعالى الكاملة، وأولياؤه المقرَّبون وأُمناؤه على دينه وشريعته، وأنّ طاعتهم طاعة الله تعالى ورسوله ومعصيتهم معصية لله، وإنّ شيعتهم في الجنة ومخالفيهم في النار.
وكان مما قال (صلى الله عليه وآله) بعدما نزلت آية: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)): «يا أيها الناس، إنه لم يكن نبي من الأنبياء ممن كان قبلي إلا وقد عمره الله ثم دعاه فأجابه، فأوشك أن أُدعى فأجيب، وأنا مسؤول وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟ » فقالوا: نشهد أنك قد بلَّغت ونصحت وجهدت، فجزاك الله خيراً.
فقال (صلى الله عليه وآله): «ألستم تشهدون أن لا إله الله وأنّ محمداً عبده ورسوله، وأن جنته حقّ وناره حقّ، وإنّ الموت حقّ وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ الله يبعث من في القبور».
قالوا: بلى نشهد بذلك.
فقال (صلى الله عليه وآله): «اللهم اشهد»، ثم قال: «أيها الناس ألا تسمعون؟ ».
قالوا: نعم.
فقال (صلى الله عليه وآله): «فإني فرط على الحوض، وأنتم واردون عليّ الحوض، وإنّ عرضه ما بين صنعاء وبصرى فيه أقداح عدد النجوم من فضة فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين».
فنادى منادٍ: وما الثقلان يا رسول الله؟
قال (صلى الله عليه وآله): «الثقل الأكبر: كتاب الله، طرف بيد الله عزوجل وطرف بأيديكم فتمسكوا به لا تضلوا، والآخر الأصغر عترتي، وإنّ اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فسألت ذلك لهما ربي فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا»! ثم أخذ النبي (صلى الله عليه وآله) بيد الإمام علي (عليه السلام) فرفعها حتى بان بياض إبطيهما وعرفه القوم أجمعون.
فقال (صلى الله عليه وآله): «أيها الناس مَن أولى الناس بالمؤمنين مِن أنفسهم؟ ».
فقالوا: الله ورسوله أعلم.
فقال (صلى الله عليه وآله): «إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعلي مولاه ـ يقولها ثلاث مرات ـ ثم قال: اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه، وأحب من أحبَّه، وابغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار، ألا فليبلِّغ الشاهد منكم الغائب».
ثم تابع رسول الله (صلى الله عليه وآله) خطبته فقال:
«فاعلموا معاشر الناس ذلك، فإن الله قد نصبه لكم إماماً، وفرض طاعته على كل أحد، ماض حكمه جائز قوله، ملعون من خالفه، مرحوم من صدقه، اسمعوا وأطيعوا، فإن الله مولاكم وعلي إمامكم، ثم الإمامة في ولدي من صلبه إلى يوم القيامة، لا حلال إلا ما حلله الله وهم، ولا حرام إلا ما حرمه الله وهم فصلوه، فما من علم إلا وقد أحصاه الله في ونقلته إليه ـ في أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ.
لا تضلوا عنه ولا تستنكفوا منه، فهو الذي يهدي إلى الحق ويعمل به، لن يتوب الله على أحد أنكره، ولن يغفر له، حتم على الله أن يفعل ذلك، وأن يعذبه عذابا نكرا أبد الآبدين، فهو أفضل الناس بعدي ما نزل الرزق وبقي الخلق، ملعون من خالفه.
قولي عن جبرائيل عن الله فـ ((لْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ)) افهموا محكم القرآن ولا تتبعوا متشابهه، ولن يفسر لكم ذلك إلا من أنا آخذ بيده شائل بعضده. ألا وقد أديت، ألا وقد بلغت، ألا وقد أسمعت، ألا وقد أوضحت.
إن الله قال وأنا قلت عنه: لا تحل إمرة المؤمنين بعدي لأحد غيره».
ثم رفعه إلى السماء حتى صارت رجله مع ركبته (صلى الله عليه وآله) وقال:
«معاشر الناس، هذا أخي ووصيي، وواعي علمي، وخليفتي على من آمن بي وعلى تفسير كتاب ربي، اللهم إنك أنزلت عند تبيين ذلك في علي ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)) بإمامته، فمن لم يأتم به وبمن كان من ولدي من صلبه إلى القيامة فـ ((أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ))... ».
ثم تابع الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) خطبته وحثَّ الناس على إتباع علي أمير المؤمنين (عليه السلام) وأهل بيته، وانتهت الخطبة النبوية المسهبة والتي تناولت أموراً كثيرة وحيوية بتعيين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) أميراً على المؤمنين ووصياً وخليفة لرسول ربِّ العالمين.
وقبل أن يتفرق الناس هبط جبرئيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالآية الكريمة: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً)) وقد جاء في التفاسير: بأنّ هذه الآية جاءت بعد أنّ نصب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبأمر من الله تعالى علياً أمير المؤمنين (عليه السلام) إماماً على العالمين، وتسمى هذه الآية بآية الكمال أي كمال الدين، وهي ـ بحسب بعض الروايات ـ آخر فريضة أنزلها الله تعالى على رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «لما نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عرفات يوم الجمعة أتاه جبرئيل، فقال له: يا محمد، إنّ الله يقرؤك السلام ويقول لك: قل لأمتك: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)) بولاية علي بن أبي طالب ((وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً))، ولست أنزل عليكم بعد هذا، قد أنزلت عليكم الصلاة والزكاة والصوم والحج وهي الخامسة، ولست أقبل هذه الأربعة إلاّ بها».
حادثة الحارث بن النعمان الفهري:
الثاني: نزول قوله تعالى: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ).
وذلك أنه لما شاع ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في يوم غدير خم في علي (عليه السلام) وطار في البلاد، وبلغ الحارث بن النعمان الفهري، أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على ناقة له فنزل بالأبطح عن ناقته، وأناخها، فقال: ((يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقبلناه منك، وأمرتنا أن نصلي خمساً، فقبلنا منك، وأمرتنا بالزكاة، فقبلنا منك، وأمرتنا أن نصوم شهراً، فقبلنا منك، وأمرتنا بالحج، فقبلنا منك، ثم لم ترضَ بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك تفضله علينا، وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه. فهذا منك أم من الله؟
فقال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): والذي لا إله إلا هو إن هذا من الله.
فولّى الحارث بن النعمان وهو يريد راحلته ويقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حق فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فما وصل إلى راحلته حتى رماه الله تعالى بحجر، فسقط على هامته، وخرج من دبره، وأنزل الله (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ))).
|